الرواية العربية ذات البعد التاريخي
تعكس مجموعة من الروايات العربية على الرغم من تنوع اتجاهاتها الفنية (الروايات الكلاسيكية، الرواية الجديدة، الرواية الرومانسية، الرواية الواقعية...) موضوعها التاريخي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عبر التماثل بين الذاتي والموضوعي أو من خلال المادية الجدلية المبنية على التفاعل بين الفوقي والتحتي. ومن المعلوم أن هناك أربعة أنماط من الرواية التاريخية سنحددها على النحو التالي:
1- رواية التوثيق التاريخي( وزير غرناطة لعبد الهادي بوطالب نموذجا)؛
2- رواية التشويق الفني للتاريخ( روايات جورجي زيدان )؛
3- روايات التخييل التاريخي( الزيني بركات لجمال الغيطاني، ومجنون الحكم والعلامة لبنسالم حميش، وجارات أبي موسى لأحمد توفيق، وثلاثية غرناطة لرضوى عاشور...)؛
4- الرواية ذات البعد التاريخي( كل الروايات العربية ذات الطرح التاريخي على المستوى المرجعي كروايات عبد الكريم غلاب وخاصة دفنا الماضي وروايات نبيل سليمان وروايات نجيب محفوظ...).
وعليه، فروايات نجيب محفوظ- باختلاف أنماطها النوعية والفكرية- تعبر عن تاريخ مصر منذ احتلال الإنجليز لها، إلى قيام الحربين العالميتين وظهور ثورة سعد زغلول مرورا بالأزمة العالمية وسقوط الملكية ونجاح الثورة الناصرية ومعايشة النكسات والنكبات والهزائم المريرة ومواكبة المرحلة الساداتية وسياسة الانفتاح على عهد مبارك وسياسة التعايش والتطبيع مع إسرائيل.
وتنقل لنا روايات عبد الكريم غلاب الروائي المغربي كذلك لحظات تاريخية عرفها المغرب منذ عهد الحجر على استقلاله وما بعد استقلاله. فإذا كانت رواية " دفنا الماضي" لعبد الكريم غلاب تصور صراع المغاربة ضد المحتلين الأجانب، فإن رواية" المعلم علي" تركز على شريحة من العمال مجسدة نضالهم السياسي المرير من أجل تأسيس نقابة وطنية مغربية حرة. وهذا ماتطرحه أيضا رواية" الريح الشتوية" لمبارك ربيع. أما روايات عبد الله العروي" أوراق" بالخصوص، وروايات محمد برادة وبالضبط "لعبة النسيان"، فهي تصور معاناة المغرب من جراء سياسة الاستغلال والتغريب التي تبنتها الحكومة الاستعمارية وأثر ذلك على المثقفين الذين عاشوا قسوة الاحتلال وإحباط الاستقلال، وأحسوا بالإخفاق والفشل والتأخر التاريخي وزيف الشعارات السياسية كما هو مشخص في روايتي "الغربة" و"اليتيم" لعبد الله العروي.... كما ركزت روايات أخرى على الصراع الاجتماعي والسياسي في مغرب الستينيات والسبعينيات كروايات محمد زفزاف وعمر والقاضي ومحمد عزالدين التازي.... بينما اختارت روايات أخرى معالجة موضوع الاستبداد والسلطة ومصادرة حقوق الإنسان وبطالة المثقفين والهجرة وجدلية المثقف والسلطة في روايات بنسالم حميش وعز الدين التازي ومحمد برادة وعمرو القاضي...
هذا، ويقول صنع الله إبراهيم" المؤرخ الجيد هو الروائي" ، وبهذا يكون بلزاك BALZACالمؤرخ الحقيقي لفرنسا في الكوميديا الإنسانية، بينما يكون عبد الكريم غلاب من خلال روايتيه " دفنا الماضي"، و"المعلم علي"المؤرخ الحقيقي للمغرب، ويكون الطاهر وطار المؤرخ الحقيقي للجزائر، ويعد غسان كنفاني المؤرخ الحقيقي لفلسطين المحتلة، وعبد الرحمن مجيد الربيعي مؤرخ العراق بكل جدارة، ويكون نجيب محفوظ المؤرخ الحقيقي لمصر عبر مراحلها التاريخية، ويكون نبيل سليمان كذلك هو المؤرخ الحقيقي لسورية الحديثة في رواياته جميعا مثل: ينداح الطوفان، والسجن، وثلج الصيف، وجرماتي، والمسلة، وهزائم مبكرة، وقيس يبكي، ورباعيته "مدارات الشرق" التي تضم: الأشرعة وبنات نعش، والتيجان، والشقائق. ويقول الأستاذ محمد عزام في هذا الصدد:
" يمكن تحقيب التاريخ الذي وضع عنه نبيل سليمان رواياته في المراحل التالية:
1- مرحلة الجهاد ضد الحكم العثماني.
2- مرحلة الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي.
3- مرحلة النضال من أجل الوحدة العربية.
4- عهد ثورة الثامن من آذار في سورية.
5- نكسة العرب في حرب حزيران 1967.
6- حرب تشرين عام 1973.
ومن الملاحظ أن الكاتب اختار أبرز الأحداث الهامة في حياة وطنه وأمته من تاريخها الحديث والمعاصر، فأعاد تركيب أحداث كل مرحلة زمنية، ولكن من وجهة نظره. وهي وجهة نظر التاريخ الشعبي، لا الرسمي، والشفوي لا المكتوب. ومن هنا يمكن القول: إن النص الغائب في رواياته هو المرجع المشاهد إذا كان الحدث قريبا، والمسموع إذا كان الحدث سعيدا في الزمن.".
هكذا نسجل أن كل رواية ولو كانت رومانسية في خطابها إلا وتعكس واقعها المعاش بمختلف تمظهراته التاريخية إما بشكل سطحي وإما بطريقة تعتمد على التمويه والإيحاء والترميز والرسالة غير المباشرة. ومن ثم نقول: إن الرواية مرآة تجلي لنا التاريخ الشخصي والموضوعي على حد ماذهب إليه الروائي الفرنسي فلوبيرFLAUBERT.
ونصل في الأخير إلى أن الرواية التاريخية أشكال وأنماط، ومأزقها الحقيقي يتمثل في الإشكالية التالية: هل نراعي عند كتابة رواية تاريخية الصدق والأمانة في نقل الأحداث واعتماد الوثيقة المكتوبة أو الشفوية أم يمكن التصرف فيها بالتخييل والإبداع والافتراض والخلق والتخيل لماهو ممكن ومحتمل؟ ولماذا كتابة رواية تراثية تاريخية بالضبط كما يفعل بنسالم حميش في روايتيه" مجنون الحكم "و"العلامة"، وجمال الغيطاني في "الزيني بركات" وأحمد توفيق في "جارات أبي موسى"... وبصياغة أسلوبية موروثة؟ ولماذا الهروب إلى التراث لاستنساخه من جديد والرجوع إلى الماضي بدلا من رصد الحاضر واستشراف المستقبل كما في روايات الخيال العلمي؟ هذه الأسئلة وجيهة ومشروعة تبقى أجوبتها مفتوحة مادامت الحقيقة نسبية والحوار مقبولا.
وأما فيما يتعلق بعلاقة الرواية بالتاريخ من جهة، وبالواقع من جهة أخرى. فقد تناول هذه المسألة ميشال ڤانوستيز MICHEL VANOOSTHYSE الذي قال:" يمكن أن نعتبر الرواية التاريخية [...] المحل الأفضل [...] الذي تجد فيه جدلية الواقع والممكن أنسب مجال للتحقق، ويمكن أن تثار فيه حركة النوسان هذه بين الاعتقاد وعدم الاعتقاد، كما يكون ممكن الرواية مهددا على الدوام بالذوبان في واقع ضروب خطاب المعرفة، بين مصادرتين فإما أن يثبت أنه قصة متخيلة، وإما أن ينتفي على نحو ما حتى ينكتب في ظل الواقع ، أي في ظل النماذج القائمة".
وخلاصة القول: إن أغلب الروائيين العرب بدأوا إبداعهم الروائي بكتابة الرواية التاريخية على غرار الرواية الغربية ، وخاصة الإنجليزية منها في مبدعها والتر سكوت Walter Scoot كالروائيين المغاربة عبد الكريم غلاب وعبد الهادي بوطالب ومبارك ربيع وأحمد توفيق وبنسالم حميش،والجزائريين كواسيني الأعرج في روايته " نوار اللوز"، والطاهر وطار في رواياته "اللاز" و"عرس بغل" "الزلزال"... والمصريين: نجيب محفوظ، وجمال الغيطاني، وعبد الرحمن الشرقاوي، وتوفيق الحكيم.... لينتقلوا بعد ذلك إما إلى كتابة الرواية الواقعية وإما على كتابة الرواية الرومانسية، وليتحقق الانزياح الروائي بعد ذلك عبر التخييل التاريخي وتجاوز الرواية التاريخية التقليدية تجريبا وتأصيلا. وسيترتب عن هذا أن صارالتخييل التاريخي خطاب مفارقة ساخرة وباروديا قائمة على التهجين والأسلبة ومستنسخات تناصية يراد بها الحوار والتفاعل من خلال جدلية الهدم والبناء والانتقال بين الماضي والحاضر لبناء المستقبل والممكن المنشود.